بحث هذه المدونة الإلكترونية

جديد الفيديوز من موقع حكاية كاميليا

جديـــــــــــــد الفيديوز من موقع حكـــــــــــــــــــــــــــاية كـــــــاميليـــــــــــــــــــــــــــــــــــــا

الاثنين، 17 يناير 2011

دروس من جنوب السودان


محمد سليمان الزواوي
ما هي القوة الأكبر والسلاح الأعتى الذي يستطيع أن يشطر دولة إلى نصفين؟ إنه الفشل.

إن ما حدث في جنوب السودان هو نتاج سياسات فاشلة لأكثر من خمسين عامًا للدولة السودانية بحكامها المتعاقبين، الذين فرطوا في الحفاظ على الجنوب، الذي كان بالنسبة لهم آنذاك بمثابة الأحراش والمستنقعات التي تأوي مجموعة كبيرة من الأفارقة أصحاب الديانات الوثنية، لذا لم تمتد إليهم يد التعمير أو التحديث، وظلوا كمًّا مهملاً حتى ظهر النفط في الجنوب، فبدأ الجميع في التنبه والحرص على ذلك "الجزء الأصيل" من التراب السوداني.

تلك السياسات الفاشلة تشترك فيها منظومة العمل العربي بكامله، وهذا هو الثمن الذي تدفعه الشعوب عندما تفرط في حقها في مساءلة حكامها وفي تفريطها في الرقابة على السياسات الخارجية والداخلية لبلدانها، وهذا هو الثمن الذي تدفعه الشعوب عندما تقايض الأمن والسلام بحقوقها وكرامتها، فهذا الفشل في إدارة الدولة السودانية أدى إلى تربص وطمع العديد من الأطراف الخارجية بالسودان، بدءًا من الكيان الصهيوني ومرورًا بالولايات المتحدة، وانتهاءً بمنظمات التنصير العالمية التي تواجدت بشكل مكثف في تلك البقعة الاستراتيجية والهامة من الوطن العربي، والتي إن لم يكن قد اكتشف فيها النفط واليورانيوم قديمًا، فإنها تتلامس مع مناطق منابع النيل، ويمثل البوابة الجنوبية الحقيقية للوطن العربي ككل.

ولكن حتى الآن تبدو الدول العربية بكاملها راضية مطمئنة: فلم نر تحركات جدية من منظومة العمل العربي أو حتى من الدولة المصرية التي من المفترض أنها من أكثر المتضررين من انفصال الجنوب، فلم نر سوى بضع زيارات من مسئولين مصريين إلى الجنوب وكأن القضية لا تعني مصر وأن الانفصال حتى إن تم لن يشكل أزمة للقاهرة التي تتعرض إلى تهديد مباشر على أمنها المائي، ولكن التحركات حتى الآن لا توحي بأن هناك أزمة، فلم نر سوى بطولة كروية لدول حوض النيل تستضيفها مصر بعد أن فقدت قوتها الناعمة في العمق الإفريقي ولم يعد لها دلال وحضور في القارة السمراء؛ كما أن الدول العربية هي الأخرى يبدو أنها لا تزال تطمأن نفسها بأنها سوف تعقد شراكات مع الشطرين السودانيين، وأنها سوف تستمر في استئجار الأراضي من أجل زراعتها، وأن الجنوب ليس بالضرورة سيكون معاديًا، وكل المؤشرات الرسمية لا توحي بأن هناك مشكلة تذكر على الحدود الجنوبية للإقليم العربي.

ولكن يبدو أن جموع الجنوبيين لهم رأي آخر؛ فهناك حماسة غير مسبوقة على التصويت في الجنوب ومن الجنوبيين في شتى أنحاء العالم، الذين يريدون أن ينفصلوا بكل قواهم عن الشمال، والأخطر هو تلك الحماسة التي يبدونها في فصمهم عن المنظومة العربية، والإسلامية بالأخص، وكانت رؤاهم تنحصر في أنهم لا يشتركون مع الشمال في شيء؛ لا لغة ولا دين ولا عرق، وأنهم لا يريدون أن تطبق عليهم الشريعة فمعظمهم غير مسلمين، ويريدون أن يمزقوا كل الأوصال التي تربطهم بالشمال، بالرغم من بعض الأخبار التي تريد طمأنة العرب بأنهم ربما يقيمون اتحادًا كونفيدراليًا مع الشمال، ولكن كل ذلك ليس سوى أوهام يريد العرب أن يطمأنوا بها انفسهم ويقنعوا ذاتهم بأنهم لم يفرطوا وأنه "لم يحدث شيء يذكر".

وحالة "فيكتوريا نصر الدين" هي حالة تجسد شكل جنوب السودان الجديد، فتلك فتاة استضافتها إحدى القنوات الفضائية، وكانت ترتدي في عنقها صليبًا ذهبيًا كبيرًا، ويبدو من اسمها أنها كانت من أصول مسلمة، ولكن لم تر أياد تمتد إليها بالرعاية سوى أياد المنصرين في الجنوب، حتى إنها لا تتحدث العربية، وهي حالة مجسدة لشكل الجنوب الذي لن يكون بحال من الأحوال صديقًا للإقليم العربي، بعكس ما يريد المسئولون العرب أن يقنعونا به، فنذر المشكلات تتجمع فعليًا في الأفق بسبب تلك الدولة الوليدة.

ففي مقال له في النيويورك تايمز، أعرب الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن أمانيه بأن تتم عملية التصويت بأمان، ووعد وتوعد، وعد أولئك المساهمين في نجاح الاستفتاء برفع أسمائهم من قائمة الإرهاب، وأنهم سوف يتمتعون بعلاقات جيدة مع الولايات المتحدة، في حين توعد بأن من يعمل على إفشال الاستفتاء أو يثير العنف سوف تصب عليه الولايات المتحدة جام غضبها. ولكن الأخطر في خطاب أوباما هو قضية دارفور؛ حيث أكد أوباما أن قضية دارفور لن تنسى، وأن الولايات المتحدة سوف تعمل على إحلال السلام هناك، وأنه لن يتم السماح بالاعتداء على السكان المدنيين هناك، كما أكد أن أولئك الذين ارتكبوا جرائم حرب أو تطهير عرقي سوف تنالهم يد العدالة الأمريكية.

وتصريحات أوباما تعلن صراحة أن الولايات المتحدة قد أنهت ملف الجنوب بهذا الاستفتاء في حال نجاحه وتحقيق الانفصال، وأن القضية التالية سوف تصبح قضية دارفور، والتي سوف تكون "جارة" لأمريكا في تلك الحالة بعدما تسيطر المنظمات التنصيرية بصورة رسمية على الجنوب، وتجلب الولايات المتحدة مؤسساتها وشركاتها العالمية من أجل التنقيب والإعمار وشق الطرق وعمل البنية التحتية والسيطرة على منابع النفط وشق أنابيب جديدة تتخطى الشمال ببدائل أخرى سواء في ميناء مومباسا الكيني أو غيره، وعندها سوف تكون الولايات المتحدة من أصحاب المصالح في الجنوب، وصاحبة حق أصيل، ودارفور سوف تكون قضية إقليمية بالنسبة لها.

كما لا يزال هناك فتيل قابل للاشتعال بين الشطرين، وهو قضية أبيي ومشكلات النفط والرعي وترسيم الحدود وكذلك الجنسية لتلك القبائل المشتركة في الشطرين، كما أن هناك مسألة أخرى هامة وهي وضعية الشماليين في الجنوب والجنوبيين في الشمال، وكلها مشكلات تنذر بتفجر الأوضاع في أي وقت حتى إذا مر الاستفتاء بسلام، كما أن قضية الجنوب تلك في حال نجاحها وازدهار شعبها سوف تمثل سابقة في المنطقة العربية ونموذجًا يحتذى لقوى الانفصال في الداخل العربي، بدءًا من كردستان ومرورًا بمصر وانتهاء بالصومال والمغرب العربي وغيرها من البلدان التي لها أجندات غير عربية أو غير إسلامية.

لا يجب أن نضع رؤوسنا في الرمال، فما حدث في السودان هو بالأساس بسبب عدم قدرة الشعوب العربية على تشكيل مصائرها أو أن يكون لها يد في صنع القرار، وفشلها في مساءلة حكامها أو في وضع أسس الحكم الرشيد الذي يفصل بين السلطات والذي يستغل كل موارد الدول من أجل المصلحة العامة للشعوب، مما أسفر عن فشل على مستوى الأقطار وعلى مستوى الإقليم العربي ككل، والذي تتشابه ظروفه من محيطه إلى خليجه، مما نتج في النهاية عن عدم وجود نظام إقليمي قادر على نزع فتيل الأزمات من داخله أو على حدوده، وبات مهددًا بالتقسيم والشرذمة، وبات مطمعًا لكل القوى الاستعمارية حتى الأضعف منها، وباتت خطوط الأمن العربي تتمحور حول كيانات داخلية وأقاليم متقطعة ومتحاربة، في حين أن الدول والكيانات الكبرى أمنها يبدأ من على بعد مسافات شاسعة من حدودها مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين وروسيا وغيرها من البلدان والأقاليم الهامة في العالم.

كما فشل الإقليم العربي ككل أيضًا في أن يشيد أي منظومة اقتصادية أو سياسية أو تجارية ناجحة بين أطرافه تربط مواطنيه بمصالح مشتركة وبأمن إقليمي، بل إن خطوط التواصل بين الدول اقتصرت على مشروعات مثل خطوط أنابيب تصدير الغاز المصري إلى "إسرائيل"، وهو مشروع استراتيجي إقليمي يهدف إلى تعزيز السلام والأمن والشراكة بين الطرفين، وللمفارقة هو بين أقوى غريمين في المنطقة على مستوى الشعوب وعلى مستوى الصراع الاستراتيجي يهدف إلى جسر الهوة بين الشعوب العربية و"إسرائيل"، وهو شاهد جديد على فشل المنظومة العربية ككل وعلى أن الأجندات تفرض عليها من الخارج بسبب عدم وجود غطاء إقليمي يتحرك ككيان واحد له مصالح وتهديدات مشتركة.

إن انفصال الجنوب سيمثل شهادة فشل أخرى للمنظومة العربية ككل، وللمنظومة القطرية لكل دولة على حدة، وليس مستغربًا أن نجد مشكلات جمة تواجه الدول العربية في شمال إفريقيا، بدءًا من مصر ومرورًا بتونس والجزائر، وكلها تشهد قلاقل واضطرابات كنتيجة مباشرة لسوء إدارة الدول، فملف انتقال السلطة في مصر يجعلها لا تنظر للنيران المشتعلة في الكثير من الملفات الطائفية والاقتصادية والأمنية، والأمر لا يختلف كثيرًا في تونس والجزائر التي تندلع فيها المظاهرات؛ حيث إن الاهتمام الأكبر لا يزال بأمن النظام وليس بأمن المواطن، الأمن بمفهومه العام والخاص والمتمثل في الرعاية الصحية والحالة الاقتصادية وتوفير الحاجات الأساسية من مسكن وملبس وتعليم وغيرها من الضرورات الأساسية للحياة، إلى جانب الأمن الإقليمي والغطاء الجامع لكل تلك الشعوب التي يجمعها كل شيء، ولكن أي شيء يمكن أن يفرق بينها حتى لو كان مباراة كرة قدم، بسبب هشاشة منظومة الحكم في كل تلك البلدان وهشاشة الغطاء الإقليمي الجامع.

إن مشكلة السودان وانفصال الجنوب لا تتجزأ عن المشكلة الأكبر التي تواجهها المنطقة العربية، والتي تعد من أكثر مناطق العالم تراجعًا في الحريات وفي نزاهة الانتخابات أو الحكم الرشيد، والسودان حتى في ظل تطبيقه للشريعة فشل في أن يقيم العدل بين مواطنيه بين الشمال والجنوب مما ساهم في تشرذم ولاءات المواطنين، فالقوة الناعمة للشريعة الإسلامية تتمثل في أنها تقدم غطاء متكاملاً للمسلمين، وعدلاً وإنصافًا لغير المسلمين الذين يقيمون في دولة الإسلام، وهذا ما كان يدخل غير المسلمين في الإسلام أفواجًا في كل البلدان التي فتحها المسلمون الأوائل، وهو ما أفرز لنا في النهاية عالمًا إسلاميًا مترامي الأطراف، إلا أن فشل المسلمين في التمسك بالتعاليم الإسلام جعل تلك الأطراف مشدودة وقابلة للبتر وغير مرتبطة بالمركز سواء داخل الدول أو على المستوى الإقليمي.

قد يظن الكثيرون أن انفصال الجنوب هو نهاية لمشهد مأساوي حزين استطاع المنصرون والصهاينة أن يبتروه عن العالم الإسلامي، ولكن الكابوس الأكبر هو أن انفصال الجنوب ليس نهاية المشهد، ولكنه فقط البداية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أرسل تعليقا