العربية نت
تصورت أن فى الأمر نوعا من الدعابة أو الدس فطلبت من زميلتنا رانيا ربيع المحررة فى وحدة متابعة الأحزاب الاتصال به والتأكد من أنه بالفعل يصف نفسه بأنه «زعيم قبط مصر» فكانت المفاجأة أنه الزعيم بكل فخر.
بعد ذلك جرت الأمور على النحو التالى: حشد مئات الأقباط فى مقر الكاتدرائية بالعباسية.. هتافات غاضبة وشتائم طالت كل شىء فى مصر، واتهامات للمسلمين بالخطف، وشعارات طائفية هى بمثابة دليل إضافى على انتحار الدولة المدنية فى مصر.
لكن الأخطر هو ما جاء بعد ذلك: بعد أن انتهت أزمة زوجة الكاهن بتسليمها إلى الكاتدرائية فى ظروف يكتنفها الغموض، قرر مئات من الأقباط أن يواصلوا اللعبة، احتشاد وتظاهر وضغط على عصب الدولة الحساس من أجل تحقيق ما يرونه مكاسب أخرى، كان الهدف هذه المرة الحصول على تصريح ببناء كنيسة فى مغاغة، فوجهوا هتافهم ضد محافظ المنيا اللواء أحمد ضياء الدين، بأسلوب طرق الحديد وهو ساخن.
إن أسوأ ما يمكن أن تبتلى به مصر أن يعلو شىء على الدستور والقانون، وأن تخلى الدولة مساحات مهما صغرت للطائفة أو الجماعة، وأخطر من ذلك أن يجرى نسف فكرة المواطنة الكاملة بترديد شعارات من عينة «الشعب القبطى» و«زعيم القبط».
غير أن آفتنا الحقيقية أننا لا نتعلم أبدا، فبعد حكم الإدارية العليا بشأن الزواج الثانى للأقباط اندلعت أخطر أزمة يمكن أن تعصف بحياة أى أمة، حيث بدا الأمر وكأننا أمام تناطح مخيف بين سلطة الدولة وسلطة الكنيسة، وحذرت أصوات كثيرة عاقلة من المثقفين المصريين، الأقباط منهم قبل المسلمين، من الاستسلام لتلك الثنائية المرعبة، ورغم ذلك انقشعت تلك السحابة عن الدولة المصرية وهى فى حالة يرثى لها.. لم تعد الدولة الرخوة، ولا حتى الدولة الرغوة، فقد تجاوزت تلك المرحلة لتصل إلى مناطق من التحلل والتآكل غاية فى البؤس والهزال.
وليس بعيدا عن ذلك، وإن اختلفت الملابسات والتفاصيل، الاحتقان الموجود على أرض سيناء حيث تصفعنا من جديد ثنائية سلطة الدولة وسلطة البدو وما يكتنفها من انفجارات صغيرة متكررة، يتم التعامل معها على عجل وبدون استراتيجية واضحة، وسرعان ما تثور بعد إخمادها، لأننا لا نريد أن نتصدى لمثل هذه القضايا بشكل جدى وجذرى.
وفى ظنى أن ما يجرى فى سيناء هو نتاج طبيعى أيضا لانسحاب الدولة المدنية، فبعد ثلاثين عاما تقريبا من عودة سيناء كانت هناك أشياء كثيرة يتحتم إنجازها كى نقيم مجتمعا مصريا صحيا هناك.. فماذا كان يمنع مثلا أن ينتقل خمسة أو عشرة ملايين مصرى للعيش فى سيناء التى لا نعرف عنها للأسف سوى أنها واقعة بين خطين: الأول هو شرم الشيخ والمنتجعات السياحية، والخط الثانى هو البدو ومشاكلهم.
وتخيل معى لو أن أحدا يملك القدرة على التفكير طويل المدى كان قد قرر ضخ عشرة ملايين مواطن فى عروق سيناء الجافة على مدار الثلاثين عاما الماضية، أتصور أن حياة مصرية حقيقية كانت ستنشأ هناك، حياة قوامها التنوع المذهل فى الشخصية المصرية منصهرا فى سبيكة واحدة اسمها «المواطن مصرى» لكننا للأسف تعاملنا مع سيناء على أنها مجرد بيئة خصبة لكى يمارس فيها الكبار نزواتهم الاستثمارية، دون الالتفات إلى إحداث تنمية حقيقية فيها تنمية تستهدف البشر أولا وتوجد تركيبة سكانية طبيعية ومتجانسة.
باختصار شديد.. من العباسية إلى سيناء، الدولة غائبة أو بالأحرى متغيبة وربما مغيبة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أرسل تعليقا