ما من شك أن السودان تعرض لمؤامرات ومخططات من قوى كبرى لا قبل للخرطوم بمجابهتها في ظل خذلان كبير من الجيران العرب, ولكن مما يتفق عليه المهتمون، أن النظام أسهم في إضعاف جبهته الداخلية، ممهدا الطريق لنجاح تلك المؤامرات والمخططات الاستعمارية, وفي هذا درس مهم لكافة الإسلاميين، مفاده أهمية بناء منظومة فكرية سياسية معاصرة مستقاة من الشريعة الإسلامية..
خلال أشهر قليلة توشك السودان، بوصفها إحدى أكبر الدول العربية مساحة وما كان يعرف بسلة غذاء العالم العربي، أن تدخل مرحلة مفصلية في تاريخها، وهي حقبة التقسيم والتشطير, إنها سياسة تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ, التي طالما حذر منها المفكر السياسي عبدالله النفيسي وغيره من الباحثين الإستراتيجيين النابهين، الذين لا يجدون مكاناً لدى نظم استهلكت دوائرها القريبة من صانع القرار في تثبيت حفنة من المنتفعين والانتهازيين وأصحاب المشاريع المستوردة والمنافع الشخصية.
ثمة دلالات خطيرة تتقافز بين عيني الإسلاميين إزاء هذا الحدث الكبير، يمكن أن نطل على شرفاتها فيما يلي:
1) ـ طوال عشرين عاماً من عمر حكومة الإنقاذ ذات الخلفية الإسلامية، فشلت فشلاً ذريعاً في إقامة حكم إسلامي شامل لقيم العدل والشورى وتحقيق التنمية للمواطن السوداني, ففي الحقبة الترابية، كانت "المراهقة السياسية"، حيث زُج بالبلد المثقل بالحروب والمعضلات إلى دوامة اصطفافات واختلافات الدول العربية عقب الغزو العراقي للكويت، ثم أريد له أن يتحول إلى حديقة خلفية للجماعات الإسلامية المسلحة، مما حمّل البلد ملفات شائكة في مواجهة القوى الكبرى والمحيط العربي, وقد وفر هذا المسوغات الدولية والعربية لإرهاق البلد اقتصادياً وإنهاكه عسكرياً.
وفي الحقبة التي تلت خروج الترابي من السلطة، لم يفلح النظام في تغيير سياسته باتجاه دولة العدل والشورى، مما أفسح المجال لرفاق الأمس وخصوم اليوم والقوى الدولية والإقليمية، لإثارة ملف دارفور, والضغط باتجاه تنازلات خطيرة في ملف الجنوب.
وما من شك أن السودان تعرض لمؤامرات ومخططات من قوى كبرى لا قبل للخرطوم بمجابهتها في ظل خذلان كبير من الجيران العرب, ولكن مما يتفق عليه المهتمون، أن النظام أسهم في إضعاف جبهته الداخلية، ممهدا الطريق لنجاح تلك المؤامرات والمخططات الاستعمارية, وفي هذا درس مهم لكافة الإسلاميين، مفاده أهمية بناء منظومة فكرية سياسية معاصرة مستقاة من الشريعة الإسلامية وسط عالم متشابك ومتداخل ومضطرب ومختلف في قوانينه وأحواله، بحيث لا يفاجأ الإسلاميون بامتطائهم مقود القيادة بلا بناء فكري وعلمي متكامل في الأداء السياسي المعاصر، بعيداً عن الاكتفاء بالشعارات العامة، التي لا تكفي لرسم خارطة الطريق للسياسي الإسلامي، وهذا يفرز إعادة إنتاج المراهقة السياسية والمنهجية الشعوائية في التعامل مع الواقع الذي سلكته الحركة الإسلامية في السودان.
2) ـ تغير الخريطة السكانية للسودان عموماً ولجنوبها خصوصاً خلال أقل من نصف قرن، فبعد أن كانت نسبة النصارى هامشية لا تذكر إزاء الحضور الإسلامي، إلى جانب الوجود الوثني الأفريقي, أفلحت جهود التنصير الضخمة خلال عقود قليلة في تغيير المعادلة, وفي هذا بيان الآثار الكارثية للتنصير على الصعيد الأمني والإستراتيجي للدول, وخطورة تغاضي الأنظمة عن الجهود التنصيرية التي تولد الانقسام والانشطار في البينة السكانية للدول, ويدخل في ذلك التبشير الصفوي الذي توغل في الشام وبدأ في التمدد في مصر وتونس والمغرب العربي عموماً.
وفي هذا درس بليغ ينبغي أن يُستوعب من قبل المفكرين الإسلاميين الذين ظلوا لسنوات طويلة يسخرون ممن يتصدون للتنصير والتشيع، ويرمونهم بالسطحية والتزمت وتأجيج الملفات الطائفية، ولا نكاد نسمع لهم صوتاً فاعلاً إلا بعد أن يثخن العدو في الفريسة طعناً وقتلاً، كما نسمع اليوم تلك اللغة الثائرة ضد الكنيسة القبطية من الأستاذ محمد سليم العوا وأمثاله من المفكرين, وقبلها تحذير آخرين من التوغل الصفوي بعد خراب العراق.
فلئن غاب عن النظم والعديد من النخب الفكرية والإسلامية الواجب الشرعي في التصدي للإرساليات التنصيرية والتبشير الصفوي، فلا أقل من أن تدفعهم المصلحة الوطنية والمسؤولية الاجتماعية إلى أهمية التصدي لها, ولا يمنعهم من ذلك تقاطع تلك الجهود مع مصالح أي قوة غربية أو عربية إذا حافظ العقلاء على هويتهم واستقلاليتهم عن هذا الطرف أو ذاك.
3) ـ إن القراءة الشرعية الفاحصة لكل تلك الكوارث التي حلت بالأمة من احتلال وتقسيم وحروب أهلية، تشير إلى المسؤولية المركزية للاستبداد وغياب إرادة الأمة ورجالاتها الذين يعبرون عن مصالحها وثوابتها وحاجياتها, وحتى تلك الكوارث في المحيط الشرعي المحض ـ إن صحت العبارة ـ كتنصير المسلمين أو تلقينهم القيم الغربية المنافية للإسلام أو فسح المجال لدعاة الزندقة لنشر فسادهم وتجفيف منابع التدين فللاستبداد اليد الطولى في التمكين له أو تطويع الناس لقبوله وتشرب مفاهيمه, ومن هنا يمكن أن تتعدل بوصلة الكثيرين نحو جذر المشكلة والبعد عن الغوص في مسارب المعضلة واستهلاك الجهود الكبرى نحو علاج أعراض المرض، بعيداً من علاج أسبابه ومنابعه التي تتدفق الأعراض منه.
ولا ينسينا انحراف بعض مثقفينا ومفكرينا في وصف العلاج الناجع للاستبداد عبر وصفات غربية مستوردة، تلك القضية الكبرى، إذ من المهم أن نستلهم أهميتها في مسيرتنا الدعوية والإصلاحية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أرسل تعليقا