الألوكة
كلَّما تعاظَمتْ مَطامِع الغرب في بلادنا تنامَت مَطالب واحتِجاجات الأقليَّات، لا سيَّما الدينيَّة، وتعدَّدت أزماتهم، وبالطبع يَصعُب تبرير هذا التربُّص وافتِعال الغضب مرَّة بعد مرَّة على أشياء هي من صَمِيم الدساتير العالميَّة، ومنها الدستور المصري، والتي تُقرِّر حريَّة الاعتقاد لكلِّ مواطن - بشعورهم المفاجئ بالاضطهاد، أو يقظتهم السريعة خلالَ نصف قرن لم تكن قبلَها ثمَّة مشاكل بين المسلمين والأقباط، ومن البلاهة تصديقُ أنَّ العشوائيَّة والانفِعالات الطائفيَّة فقط هي ما يُؤجِّج الثورات القبطيَّة؛ ربما لأنَّنا كأمَّةٍ شاهدنا نفس السيناريو منذ قرنٍ واحد، ولم يكن بدوره جديدًا على المنطقة، هذا ما يَبُوح بتفاصيله تاريخُنا الحديث، في أماكن وأزمان متعدِّدة.
والمُتابِع لأزمات الكنيسة الأرثوذكسيَّة في مصر اليومَ يلاحظ تشابهًا مريبًا بحكاية الأرمن مع الدولة العثمانيَّة مطلعَ القرن الماضي؛ فبعد أنْ كانت مَطالِبهم مُنحصِرة في السَّماح لهم ببناء الكنائس دون قيودٍ صاروا الآن يَتظاهَرون ويعتَصِمون لانتِزاع امرأةٍ أسلمَتْ من بين ظهراني الأمَّة البكماء العمياء التي صارَتْ تكتفي بالمصمصة وربما البكاء؛ للردِّ على كلِّ مهانة تنالها، كانت بدايتها مع وفاء قسطنطين - تغمَّدها الله برحمته - وآخِرها كارثة كاميليا شحاتة التي ندعو الله لها بالثَّبات.
أمَّا الأرمن الذين استَظَلُّوا بمظلَّة الدولة العثمانيَّة قرونًا طويلة، فقد تأثَّروا بإغواء وإغراء الرُّوس والإنجليز؛ فبدأت أولاً روسيا الأرثوذكسيَّة بإثارة الأرمن الرُّوس القاطِنين قربَ الحدود الروسيَّة العثمانيَّة، وحرَّضتْهم على الدولة العثمانيَّة، وأمدَّتهم بالمال والسِّلاح فضلاً عن تدريبهم في أراضيها، وبدأ الأرمن بتشكيل جمعيَّات مسلَّحة تحت "دعوى" جمع الأرمن في أمَّة واحدة مثل: خنجاق وطشناق، رغم أنهم موزَّعون بين ثلاث دول: روسيا وإيران والدولة العثمانية، وقدَّمت بريطانيا دعمًا قويًّا لتلك المنظَّمات، وفي أحد أعياد الميلاد أُلصِقت على جدران كنائس الأرمن منشورات تدعو إلى إعلان العِصيان بشكلٍ سافر، والمطالبة بالاستقلال عن الدولة العثمانيَّة، وكان قَبول الدولة العثمانيَّة إقامة دولة أرمنيَّة في مناطق يُشكِّل المسلمون فيها الأكثريَّة بمثابة عمليَّة انتحاريَّة للدولة العثمانيَّة؛ إذ كان عدد الأرمن - حسب الإحصائيَّات العثمانيَّة والأجنبيَّة كذلك - يصل إلى مليون ونصف مليون في جميع أراضي الدولة العثمانيَّة؛ لذا لم يَعبَأ السُّلطان بالضُّغوط الخارجيَّة ولا بتهديد إنجلترا، ولا بإرسال أسطولها إلى قلعة جنق، وحين اضطرَّت الدولة العثمانية للتحالُف مع دول المحور في الحرب العالمية الأولى واجتاحَتْ جيوش روسيا القيصريَّة الأراضي العثمانيَّة - جنَّدت الأرمن كميليشيا مُعاوِنة لقوَّاتها، وكان من الأرمن الطابور الخامس الذي عاثَ في القُرَى العثمانيَّة فسادًا، وبالمقابل تسلَّح المسلمون وبادَلُوا الأرمن هجومًا بهجوم وقتلاً بقتل، ولم تجد الدولة العثمانية حلاًّ سوى تهجير القرى المتاخِمة للرُّوس إلى أطراف الدولة العثمانيَّة المختلفة، وكان في عمليَّة التهجير نسبة عالية من الوَفيَات (سواء من المسلمين أو الأرمن) وظلَّت التُّهمة موجَّهة للدولة العثمانيَّة بالقتْل المتعمَّد للأرمن، مع مبالغة في أعدادهم ما بين 10000 في رواية المؤرِّخين الأتراك، و300000 قتيل بحسب دعاوى الأوروبيين.
وعندما دخَل الإنجليز إلى إسطنبول محتلِّين في 13 يناير سنة 1919، أثاروا المسألة الأرمنيَّة، وقبَضُوا على عددٍ من المفكِّرين الأتراك لمحاكمتهم، وشكَّلوا محكمة عسكريَّة بريطانيَّة لمحاكمتهم، إلا أنها لم تستَطِع إصدارَ أيِّ حكمٍ لعدم وجود أيِّ دليل أو وثيقة تُدِينهم، ثم قدمت البطريركيَّة الأرمنيَّة تقريرًا للمحكمة، تبيَّن أنه لا يحوي على أيِّ دليل، وبحث الإنكليز في الأرشيف العثماني وفي الوثائق البريطانيَّة ثم في الوثائق الأميركيَّة، ولم يعثروا على أيِّ أدلَّة تُدِين الأتراك، فقبلتْ بريطانيا إطلاقَ سراحهم مُقابِل سَراح بعض الأسرى البريطانيين.
وقد جاء في "دائرة المعارف السوفيتية" طبعة 1926: "إذا نظرنا للمشكلة الأرمنيَّة من المنظور الخارجي، رأينا أنها ليستْ سوى محاوَلة القُوَى الكبرى إضعاف تركيا، وذلك بمعاونة ومساعدة القوى الانفصاليَّة فيها؛ لكي تتيسَّر لها سبل استِغلالها وامتِصاص خيراتها، هذه القُوَى الكبرى كانت دُوَل أوروبا وروسيا القيصريَّة، ولم تكن الحوادث التي جرَتْ تُنبِئ عن وقوع مذبحة، بل مجرَّد قتال وقع بين الطرفين".
وفي عام 1985م نشر تسعة وستون مؤرِّخًا أميركيًّا من المختصِّين بالتاريخ العثماني بيانًا ينفي وقوع أيِّ عمليَّة تطهير عرقي للأرمن من قِبَلِ الأتراك، وخلال سنوات قليلة تعرَّض هؤلاء المؤرِّخون للترهيب والتهديد بمحاكمتهم، فتراجَعُوا وسكتوا ولم يصرَّ على رأيه سوى برنارد لويس ووجوستن ماك آرثي وأندرو مانكو، كما عرض رجب طيب أردوغان على دولة أرمينيا تشكيل لجنة مشتركة من مؤرِّخي تركيا وأرمينيا لتوضيح الحقيقة، ولم يلقَ طلبه قبولاً؛ ليظل ابتزاز تركيا اليوم وحصارها وإبعادها من المجتمع الدولي والأوروبي قائمًا على خلفيَّة اتهامها بالتطهير العرقي الذي تغضي أوروبا والمجتمع الدولي عنه الطرف عشرات السنين في بلادهم في البلقان وفي بلادنا في فلسطين؟!
وحين تدور الأحداث وتُحاوِل دول الغرب اليوم تحريض النصارى في جنوب السودان، والأفارقة في دارفور، والأقباط في مصر، وترى مؤشِّرات قويَّة على دعْمٍ مادي ومعنوي - لا بُدَّ لذاكرتك أن تسترجع كلَّ تاريخ بريطانيا وفرنسا وروسيا مع العثمانيين في البلقان والشام وأطراف بلاد القوقاز، وحين تقرأ عن الطابور الخامس الأرمني في حروب العثمانيين مع الروس، لا بُدَّ أن تملأ الهواجس نفسك حين تسمع لهتافات القبط: "يا أمريكا فينك فينك، أمن الدولة بيننا وبينك"، وعليك أنْ تشعر بالقهر والغضب لما تسمع الرجل الذي رافَقَها في رحلة إشهار إسلامها وهو يحكي كيف حاصرَتْه قوَّات الأمن وقبضت عليه، وكيف كالَتْ للمرأة التي رغبتْ في ديننا الشتائم الآثِمَة، ونالتْ من عرضها بدلاً من الدِّفاع عنها، أو حين تَسمَع من الرجل الذي آوَى كاميليا وسعى لمعاونتها، أنَّه لَمَّا دخل الأزهر وجد عشرات القساوسة يملؤون جنبات مشيخة الأزهر، حتى تجرَّأ أحدهم وطالبه بإبراز بطاقته فصاحَ به في غضب: "هو أنا داخل كاتدرائية؟!".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أرسل تعليقا